الابتكار هو عنوان النجاح الأبرز لقيادة منظمات القطاع الحكومي اليوم، فهو قاعدة الارتكاز الرئيسة التي تتعاظم أهميتها لتطوير الخدمات العامة مع مضي الوقت، لأجل ذلك لم يعد الابتكار خياراً أو توجّه للتباهي، بل هو حاجة ملحة لابد من مأسستها في هذا القطاع الحيوي، وبالتالي اعتباره مصدراً لقيمٍ حقيقية لا بد من ترسيخها بعمق في مفاصل الخدمات التي تقدمها منظمات القطاع العام.
إلا أن ذلك يبعث على الريبة في الكثير من الناس عند الحديث عن الابتكار في القطاع العام، خاصة فيما يتعلق بالسياسات العامة في المنظمات ذات الطابع الخدماتي، وذلك بسبب تجذر القواعد البيروقراطية في مفاصل الكثير منها، وما تسهم به من بطئ في الحركة والاهتمام بالشكليات، وأيضاً الاتصاف بالترهل على ضوء تشابك الكثير من التخصصات، وأيضاً الخمول في الاستجابة، وغالباً التلكؤ في مواجهة العثرات بحزم، وبالتالي اعتياد مبدأ التضحيات في إدارة المنظمات!
هذه النظرة الحادة في النقد لهذا القطاع، عبَّر عنها ماكس ويبر Max Weber عالم الاجتماع الألماني، الذي يرى أن البيروقراطية العامة تُشكِّل العائق الأكبر في خنق الابتكار في القطاع العام، ومن مظاهر هذه المعوقات: سماكة الطبقة في القوانين الرسمية، بمعنى آخر، تعدد اتجاهات هذه القوانين وتشعب مرجعياتها، وتعدد طبقات الهيكل الهرمي Multi-layered hierarchies ، وبروز الصوامع التنظيمية Organizational silos، وضعف الحوافز الاقتصادية Lack of economic incentives، وغيرها. (Huges, 2018; Halverson et al, 2005)
على أية حال، هذه الحقائق تراجعت حدتها على نحو ملحوظ في القطاع العام في السنوات الأخيرة، خاصة في الدول المتقدمة، فأصبح هذا القطاع اليوم أكثر دينامكية وابتكاراً، عن ما كانت تُنعَت به من سلبيات قبل أكثر من ربع قرن، بفضل تداعي الحكومات إلى إحداث تغييرات كثيرة إتصلت معظمها في التالي: (Sorengen and Trofing, 2012)
1. وضع سياسات أكثر مرونة في سوق العمل؛
2. انتهاج رعاية صحية وقائية؛
3. تطوير السياسات المتصلة بالمناخ؛
4. الاصلاحات التنظيمية في طريقة إدارة العمل في المنظمات الحكومية؛
5. مضاعفة الخدمات الرقمية الجديدة.
بالطبع هناك الكثير من العوامل التي ساهمت في إحداث هذه النقلة النوعية في عمل القطاع العام بطريقة تتجه بخطى ثابتة نحو الابتكار، يأتي أبرزها في هذين العاملين: (OECD, 2012)
- الاعتماد على المورد البشري المهني لتطبيق الأفكار الجديدة والطموحة، والاستعانة بالكفاءات العلمية التي تنتهج أحدث الوسائل وأنجع الطرق في تحسين الخدمات المقدمة، وأيضاً تلك القيادات القادرة على مواجهة التحديات، وإيجاد الحلول للمشكلات القائمة.
- كذلك يأتي دور المواطنين بارزاً- إن لم ركائزي- في تشجيع الابتكار في القطاع العام بالانضمام إلى مشاريع الحكومة التطويرية والمشاركة في إنجاح هذه المساعي، وأيضاً المساهمة في توجيه هذا القطاع بوسائل النقد، والتغذية الراجعة البناءة على السياسات المطروحة والخدمات المقدمة.
ومن الأهمية بمكان ذكر إن عملية نجاح تبني الابتكار في منظمات القطاع العام في الدول النامية هو رهن بضرورة انتقال أنظمتها من الأسلوب التقليدي Traditional model- الذي يتصف باتباع القواعد والتزام الضوبط- إلى نظام يتميز بالمرونة التي تهيئ الأرضية الواعدة لإرساء بيئة حقيقية تحتضن الابتكار، وهذا لن يتأتى إلا بمراعاة التطورات العلمية في العديد من الحقول، ومنها: الإداري؛ التكنولوجي؛ والاقتصادي وغيرها، والذي من خلاله حققت الكثير من الحكومات قفزات عالية معتبرة في إصلاح سياسات القطاع العام، وتطوير مفاهيمه، وتعزيز ركائز تنميته، ومن ثم تحسين الأداء العام لمنظمات هذا القطاع.
ألا نفعل ذلك، سيظل الابتكار في القطاع الحكومي عنواناً ننشده ولكن لا سبيل إلى الوصول إليه، وستبقى الحكومات أكبر المتضررين مع تراوح أدائها المتذبذب غير الفعّال، الذي بلا شك سيؤدي إلى تراجع الانتاجية، وبالنتيجة، بعثرة الجهود، وتشتت القدرات في التأثير على واقعٍ لا يزال يعاني البعد عما يمر به العالم اليوم من انتقال إلى عناوين كبرى تؤكد أهمية الاستدامة كمرتكز عند النظر إلى المستقبل.
ترجع أهمية هذا الكتاب إلى أنه يُقدِّم إدارة الابتكار في القطاع الحكومي برؤية تفصيلية تتبنى الطرح المنهجي في بناءٍ واضح المعالم يُسْعِف القيادات الحكومية في إدراك نظم الابتكار وآلياته والعوامل المؤثرة في نجاح هذه التوجه العالمي صوب تطوير قدرات المنظمات في القطاع العام وفعالية أدائها. كذلك سيُشكل هذا الكتاب بعون الله تعالى مرجعاً رئيساً لموظفي القطاع الحكومي بحيث يراعي فيه الكاتب قدرات المستويات الوظيفية ومكامن تأثيرها في واقع العمل. ولما كان الكاتب يُولى عناية مُعتبرة بالتفاصيل الضرورية في طرحٍ مُبسَّط يتدرج في إيصال الفكرة مُنتهِجاً المراحل المنطقية في التأسيس والتطبيق، مروراً بالتطوير والتحسين، وصولاً إلى التقييم وحصد النتائج، جاء التركيز على مدى تجذُّر الاستفادة المنشودة أمراً متوقعاً، من خلال الاستعانة بمراحل هذا المنهج الذي يتبناه غالب الدول الرائدة في هذا المِضْمَار.
بعض المراجع الأساسية
Harrington, J. and Voehl, F. (2016) “The Innovation Tools Handbook, Volume 1: Organizational and Operational Tools, Methods, and Techniques that Every Innovator Must Know” London: Productivity Press.
Hesseelbein, F., Goldsmith, M. and Somerville, I. (2001) “Leading for innovation”, San Francisco: Jossey- Bass.
Hughes, O. (2018) “Public Management and Administration: An Introduction”, 5th ed., Basingstoke: Palgrave Macmillan.
OECD (2012) “Innovation in Public Services: Context, Solutions and Challenges”, Organisation for Economic Co-Operation and Development: Paris.
Pollitt, C. and Bouckaert, G. (2017) “Public Management Reform: A Comparative Analysis into the Age of Austerity”, 4th ed., Oxford: Oxford University Press.
Torfing, J. (2016) “Collaborative Innovation in the Public Sector”, Washington, DC: Georgetown University Press.